تعرف على “العقرب العراقي”… أخطر مهربي البشر إلى بريطانيا

حسان كنجو
نشرت منذ أسبوعين يوم 20 نوفمبر, 2024
بواسطة حسان كنجو
تعرف على “العقرب العراقي”… أخطر مهربي البشر إلى بريطانيا
سو ميتشل

في مطلع هذا العام، انطلقنا، أنا وزميلي روب لوري، الجندي السابق الذي يعمل الآن في مجال الإغاثة الإنسانية، في مهمة سرية لكشف خبايا شبكات تهريب المهاجرين. جمعتنا خبرتي في الصحافة الاستقصائية مع تجربته الميدانية للعمل معاً على ملف الهجرة. وقادتنا تحرياتنا إلى تتبع مصائر عائلات، من بينها أسرٌ مع أطفال صغار، عبر القارة الأوروبية، وتوغلنا في مخيمات شمال فرنسا التي باتت محطات انتظار للساعين إلى عبور القنال الإنجليزي ودخول بريطانيا.

وعلى رغم أن هذه الرحلة المحفوفة بالأخطار حصدت أرواح ما يربو على 50 شخصاً منذ بداية العام، فإن ذلك لم يمنع آلافاً من خوض غمارها. فقد شهد عام 2024 ارتفاعاً في عدد المهاجرين بنسبة 16 في المئة، ليصل إلى نحو 32 ألفاً، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

وسط تفاقم أزمة الهجرة، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، خلال اجتماعات الجمعية العامة للإنتربول في غلاسكو باسكتلندا الأسبوع الماضي، عن خصخصة مزيد من الأموال لمعالجتها، وكشف عن اتفاقات جديدة مع دول غرب البلقان تركز بصورة خاصة على تبادل المعلومات الاستخباراتية.

وفي تصريح لوزيرة الداخلية إيفيت كوبر، أكدت أن نشر المحققين والتقنيات الحديثة سيستغرق وقتاً، متعهدة “بملاحقة العصابات الإجرامية التي تقف بصورة مباشرة وراء عمليات التهريب”.

التحدي الذي تواجهه الحكومة هائل، كما اكتشفنا هذا العام عندما شرعنا في تعقب وفضح المهربين أنفسهم، الأشخاص الذين ينظمون العمليات، ويجهزون القوارب، ويعدون الناس بالدخول إلى المملكة المتحدة على متن قوارب مطاطية.

كان هدفنا محدداً وهو العثور على رجل يتصدر قائمة المطلوبين لدى الإنتربول لتهريبه آلاف الأشخاص عبر أوروبا إلى بريطانيا.

اسمه برزان مجيد، لكنه يعرف بلقب “العقرب”. هو كردي عراقي يبلغ من العمر 38 سنة، عُرف عنه قسوته وبراعته في التخفي، إذ إنه اختفى وسط ظروف غامضة عندما نجحت عملية مراقبة دولية في القبض على 25 فرداً من عصابته، ولم يترك خلفه إلا خيوطًا قليلة حين شرعنا في البحث عنه.

بدأنا رحلتنا بسؤال بعض الأشخاص الذين نعرفهم في المخيمات، لكننا اصطدمنا بجدار من الصمت والخوف. فمنهم من ادعى الجهل بالأمر، ومنهم من حذرنا من المضي قدماً في مهمة البحث في حين أسرَّ لنا أحدهم بأن المهربين مسلحون، لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة في سبيل حماية تجارتهم، قائلًا: “أنا لا أخشى أحداً إلا هؤلاء لأنهم لن يترددوا في إطلاق النار عليك”.

ولم تبدأ ظاهرة تهريب البشر عبر القوارب المطاطية الصغيرة بشكل جدي إلا في عام 2019، حين شُددت إجراءات مراقبة الشاحنات القادمة إلى المملكة المتحدة. في ذلك الحين، التقينا أنا وروب طفلة صغيرة تدعى ماريان، كادت تفقد حياتها حين غرق أحد تلك القوارب المطاطية الأولى في القنال الإنجليزي.

وكان على متن القارب المطاطي 19 شخصاً من دون سترة نجاة واحدة. واختلط الوقود المتسرب من المحرك بمياه البحر ليتحول إلى مزيج حارق. وقد كشفت لنا ماريان ووالدتها عن ندوب غائرة خلّفتها الحروق على جسديهما. وعلى رغم صغر سن ماريان، فقد أدركت أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من الموت، وقالت: “كنت خائفة ومرعوبة. شعرت ببرد قارس لدرجة تمنيت معها الموت”.

كانت تلك الطفلة المذعورة والقارب المطاطي الخطر أول الخيوط التي قادتنا عبر دهاليز العصابة الإجرامية وصولاً إلى رأس الهرم الملقب بـ “العقرب”.

من المعلوم أن الشرطة البريطانية تحتجز هواتف المهاجرين الذين يُقبض عليهم، لتتفحصها بحثاً عن أدلة. وقد عُثر على رقم “العقرب”، الذي يستخدم صورة عقرب كرمز لتطبيق “واتساب”، في آلاف الهواتف.

ويقول كبير المحققين في الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة، مارتن كلارك، موضحاً أهمية تلك الصورة: “تميل بعض العصابات الإجرامية لاستخدام أسماء مستعارة لتعزيز سمعتها. وقد لفت انتباهنا تكرار ظهور صورة العقرب مراراً، وكلما تعمقنا في البحث، برز اسم مجيد أكثر فأكثر. حينها بدأنا ندرك أننا أمام شخصية بالغة الأهمية”.

وقد ساعدنا ضباط الوكالة وقدموا لنا معلومات عن مجيد. وحين اطلعنا على سجل هجرته، صُدمنا عندما اكتشفنا أنه عاش في المملكة المتحدة قرابة عقد من الزمن. فقد دخل البلاد بشكل غير شرعي في شاحنة عام 2006.

استخدم حينها اسماً مزيفاً وادعى أنه طالب لجوء فارّ من الاضطهاد في إيران. وتشير سجلاته إلى أن طلبه للحصول على إقامة قد رُفض بعد عام، لكن لم يُجبره أحد على المغادرة، على رغم دخوله السجن وخروجه منه مراراً بتهم حيازة أسلحة نارية وتعاطي المخدرات والاتجار بها. ولم تكتشف السلطات البريطانية جنسيته الحقيقية إلا حين زلَّ لسانه، مستخدماً هاتف السجن للاتصال بوالدته في العراق.

ووافق “العقرب”، قبل البدء بإجراءات ترحيله، على مغادرة المملكة المتحدة طواعية والعودة إلى العراق في عام 2015 – في وقت كان فيه الملايين من المشردين جراء الحروب يحاولون شق طريقهم إلى أوروبا من العراق وسوريا وأفغانستان والصومال وإريتريا.

ورث “العقرب” إمبراطورية تهريب بشر دولية ضخمة عن شقيقه كارزان، الذي زُجّ به في السجون البلجيكية بتهمة تهريب البشر. وبينما اقتصرت أعمال كارزان على تهريب البشر عبر الشاحنات، أدرك “العقرب” بحلول عام 2019 إمكانية التوسع عبر القوارب الصغيرة، وتمديد نفوذ عصابته في أرجاء أوروبا.

وبدأنا رحلة البحث عن “العقرب” في نوتنغهام حيث كان يقيم هناك، واستعنا بصور من صفحة قديمة على “فيسبوك” لتحديد موقع مغسلة السيارات التي عمل فيها حين وصل إلى المملكة المتحدة عام 2006، والتي انتهى به المطاف إلى شرائها لاحقاً.

روى لنا أحد المهاجرين قصته، وكيف هُرِّب إلى بريطانيا. أخبرنا أنه تلقى تعليماتٍ بالتوجه إلى متجر صغير للمواد الغذائية، حيث وُعد بوظيفة في مغسلة سيارات في مقابل أجر زهيد. دلنا على المتجر، فدخلته بينما كان روب يراقب الوضع من الخارج. واجهت المدير بمزاعم تورط المتجر في استقبال المهاجرين من شواطئ “دوفر” وتشغيلهم. وما إن بدأ المدير بإرسال رسائل على هاتفه، حتى توقفت أربع سيارات مُظللة أمام المتجر في غضون دقائق. وحين شرع ركابها في التقاط صور لنا، أدركنا الخطر ولذنا بالفرار.

علمتنا تجاربنا في كشف عصابات تهريب البشر أن الأخبار تنتشر كالنار في الهشيم عندما نُسلط الضوء على المستفيدين من هذه التجارة. فقد يتواصل المجرمون بدافع الفضول، أو لعرض روايتهم المُزيفة. كما أن للأعداء مصلحة في الإيقاع بالمهربين الآخرين، فنحصل على معلومات قيمة من العصابات المتنافسة التي تُصفي حساباتها القديمة. وقد تشارك عائلات الضحايا ممن لقوا حتفهم في البحر بمعلومات رغبة في تحقيق العدالة.

شاهدنا كيف أن بعض الأشخاص، بنية حسنة ورغبة في مساعدة المهاجرين، يجدون أنفسهم يسهمون في عمليات التهريب من دون قصد إذ يُرشدون المهاجرين إلى المهربين. وقد قادتنا خيوط التحقيق بعد نوتنغهام إلى سيدة في منتصف العمر، تقطن قرية فلمنكية [قرية تقع في منطقة فلاندرز الناطقة باللغة الهولندية في بلجيكا] راقية في بلجيكا، حولت منزلها الفسيح إلى مأوى للمهاجرين، مع غرفة سرية تخبئ فيها المهاجرين حتى لا تقبض عليهم السلطات. وعثرنا على أدلة تربط بعض المقيمين لديها بـ”العقرب” وموقف شاحنات قريب يسيطر عليه – حيث أُزيل السياج الشبكي لتسهيل تسلل المهاجرين إلى الشاحنات المتجهة إلى إنجلترا.

وكشف لنا رجل أعمال إيراني ثري عن تعامله المباشر مع “العقرب”، إذ عُرض عليه وأقاربه خدمة تهريب “درجة أولى” – عبر مسار فاخر للعبَّارات يربط ضفتي القنال الإنجليزي، وذلك في مقابل 18 ألف جنيه إسترليني للشخص الواحد.

أبحرَ المهاجرون من “كاليه” على متن العبَّارة، وعلى مرأى من السلطات. وقد أذهلنا الأمر لدرجة أن الرجل عرض رسم خريطة بوابة الخروج التي أُمروا بالتوجه إليها – وهي بوابة مخصصة لموظفي الميناء فقط. وكان “العقرب” قد أوصاهم بارتداء ملابس أنيقة والمشي بثقة، ليجدوا في انتظارهم موظفاً فاسداً يقلهم إلى العبَّارة، متجاوزين نقاط التفتيش البريطانية. وإمعاناً في الاحتفال بحياتهم المرتقبة في بريطانيا، قدم لهم وجبة إفطار إنجليزية كاملة على متن العبَّارة.

وجاءت نقطة التحول في التحقيق عندما كشفنا عن صلة بين “العقرب” وشبكات تهريب المهاجرين من تركيا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. قادنا أحد مصادر روب إلى مقهى في إسطنبول، يتخذه المهربون مقرًا لهم. وما إن سألنا مدير المقهى عن هذه التجارة، حتى خيم صمتٌ ثقيلٌ على المكان، ليقطعه مرور أحدهم إلى جانب طاولتنا، مستعرضاً مسدسه تحت سترته. دفعنا المشهد إلى المغادرة على عجل، لكننا قبل ذلك، تلقينا، بطريقة سرية، عنواناً في إسطنبول يُعتقد أنه مخبأ “العقرب”، برزان مجيد.

لم يحالفنا الحظ في العثور عليه في ذلك العنوان، غير أن رواد مقهى مجاور أكدوا أنهم يعرفونه. وما إن تركنا رقم هاتفنا حتى جاء الاتصال في وقت متأخر من الليلة نفسها حين اندفع روب عبر ممر الفندق نحو غرفتي حاملاً المفاجأة – كان المتصل مجيد نفسه، يستفسر عن سبب تقصينا عنه وكثرة أسئلتنا حوله.

وقادتنا التحريات أخيراً إلى فيلا فاخرة في منتجع مرمريس التركي، تكشفت معها تفاصيل الحياة المترفة لزعيم إمبراطورية التهريب الذي يدير عملياته تحت تأثير الكوكايين، محولاً المسار البحري بين تركيا وإيطاليا إلى خط لتهريب البشر. تُدر عليه يخوته المعدلة، المصممة لاستيعاب مئات، آلاف الدولارات من كل رحلة. وفي شهادة لإحدى رفيقاته السابقات، التي كشفت عن هوسه بالثراء الفاحش والحياة الباذخة: “كان يحلم بأن يصبح تريليونيراً. حاولت تحذيره لكن جشعه كان أقوى”.

وجاءت اللحظة الحاسمة عندما رصدنا “العقرب” في محل صرافة بالعراق. أدركنا خطورة ملاحقة رجل عنيف في منطقة متوترة أمنياً، بخاصة في ظل احتمال حمله السلاح وعدم إمكانية التنبؤ بردة فعله إذا شعر بالحصار. لكن التراجع لم يكن وارداً. نجح أحد مصادر روب في التواصل معه وطمأنته بأن هدفنا لا علاقة له بحكم السجن لـ10 سنوات الذي يلاحقه. وبعد التأكد من هويتنا الصحافية وطبيعة مهمتنا الاستقصائية، وافق على لقائنا في أحد المقاهي.

وما هي إلا دقائق من وصولنا للمقهى وجلوسنا هناك حتى رأينا مجيد يتجه نحونا، يتبعه فريق حراسته الذي جلس على الطاولة خلفنا. بدا كلاعب غولف ثري، مرتدياً قميصاً أزرق فاتحاً وسترة سوداء بلا أكمام. وكان يبدو في غاية الاسترخاء.

صدمنا ببرودة دمه وهو يتحدث عن مأساة الضحايا والأطفال الناجين من الغرق. وفي محاولة للتنصل من المسؤولية، ألقى باللوم على المهاجرين أنفسهم في حال تعرضهم للأخطار. وبنبرة متعالية قال: “الله لم يأمرهم بركوب القوارب، إنه خيارهم”، مضيفاً بسخرية: “هم من يتوسلون إلينا… أرجوكم، أرجوكم ساعدونا. ثم يعودون للشكوى واتهامنا. كل هذا غير صحيح”.

وكانت نظراته خالية من أي مشاعر وليس في ملامحه أي علامات على الندم، ولم يبذل جهداً لإخفاء جرائمه قائلاً إنه هرّب “ربما 1000، ربما 10 آلاف. لا أعرف، لم أحصِهم”.

وفي مفارقة عجيبة، وبينما كان يؤكد انقطاع علاقته بعالم التهريب، كانت يده تتحرك بشكل آلي على شاشة هاتفه، غافلاً عن انعكاس الشاشة في إطار صورة خلفه. ففضح نفسه بنفسه وهو يستعرض قوائم أرقام جوازات سفر مُعدَّة للإرسال إلى شبكة من الموظفين المتواطئين لاستخراج تأشيرات مزورة. فسرت تلك اللقطة العفوية مظاهر الثراء الفاحش التي تحيط به، من المجمع السكني المحصن إلى أسطول السيارات الفارهة، ومن الملابس ذات الماركات العالمية إلى نمط الحياة الباذخ.

وحين تسربت أنباء تحقيقنا الذي نجريه، تلقينا اتصالاً من نائب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان العراق، قباد طالباني الذي أعرب عن اشمئزازه حين علم أن رجلاً خطراً كمجيد يعيش حياة مترفة في العراق، ويجني الأموال من معاناة الآخرين.

المصدر اندبندنت عربية
الاخبار العاجلة